حاول الإنسان، في أول نشأته، السيطرة على موارد الطبيعة واستغلالها لصالح احتياجاته، وقد تمكن من اكتشاف الأداة التي أخذت تنمو وتتطور باستخدامها في العمل ثم استدعى التطور » وسائل جديدة للتعبير والاتصال تتجاوز بكثير الإشارات البدائية القليلة التييعرفها الحيوان، وهو لم يتطلب تلك الوسائل، بل ساعد على نموها أيضا… لقد ظهرت اللغة إلى الوجود مع ظهور الأدوات، وليست اللغة أداة للتعبير بقدر ما هي وسيلة للاتصال «[1].
وكانت اللغة تؤدي وظيفة توصيلية يراد منها إفهام المتلقي، وإيصال الدلالات المراد التعبير عنها، وكان التأكيد على القضايا النفعية يعني أنّ اللغة تشير إلى الدلالات الحسية، مطلقة الأسماء على الأشياء، ولم تكن اللغة في مراحل تطورها الأولى قادرة على تجاوز هذه المسميات إلى تكوين المفاهيم والرموز، ويتأتى هذا لأنَّ الإنسان قد ألفى الأشياء بالتدريج » وأطلق عيها أسماء مأخوذة من الطبيعة، يحاكي فيها أصواتها بقدر ما يستطيع … وكان ذلك ضرباً من الإيماء يتآزر فيه الجسم والحركات«[2]وحتى في الحالة التي تشتمل فيها اللغة على بعض الدلالات الجمالية في هذا الطور الحضاري، فإنها لا يراد منها أساسا، الغاية الجمالية، وإنما المراد منها المنفعة وضرورة توصيل الدلالة، لأنه لم يكن » التمييز بين الحقيقة الشعرية والحقيقة الموضوعية قائماً، بل كانت الفوارق بينهما مطموسة في أكثر الأحوال. إذ كانت جميع ضروب القول تجري على صورة من الرمز التلقائي وكان التعبير في أكثره مجازياً، والخيـال دومـا حاضر ليصف عالم الحقيقة ويفسره «[3]
وإذا كانت عناية الإنسان بزخرفة الوعاء الذي يأكل فيه، أو السهم الذي يستخدمه في القتال، قد جاءت متأخرة فلقد استخدم اللغة أول الأمر لمجرد التوصيل والمنفعة، ولم يكن يهدف منها تأدية دلالات جمالية معينة . ومن الجدير بالإشارة أنْ نؤكد فرقاً جوهرياً بين الأدوات التي يستخدمها الإنسان سواء أكانت لغاية نفعية أم جمالية وبين اللغة، في أنَّ اللغة »تختزن سياقاً تاريخياً واجتماعياً أكثر من أية أداة فنية أخرى، فهي الأداة الوحيدة التي تلتحم بصورة مباشرة متينة بالتطور التاريخي لتكوين الإنسان عضوياً، وذهنياً، كما أنها الأداة الوحيدة التي يواكب نضجها تكوين المجتمعات البشرية ويحدد شروط بقائها «[4].
إنَّ هناك نظاماً يحكم قوانين اللغة ويحدد مكوناتها، مهما كانت اللغة بسيطة أو بدائية، ويتحدد بهذه القوانين طبيعة اللغة وأنظمتها الصوتية والصرفية والنحوية، غير أنَّ هناك تشكيلاً لغوياً ـ فنياً ـ خاصاً، له قوانينه الخاصة التي لا تخرج عن قوانين اللغة تلك، ذلك أنَّ التشكيل اللغوي الفني يمثل نظاماً خاصاً في بنية اللغة، من حيث استخدام الإيقاع، أو توظيف التصوير، وهذا يعني أنَّ هناك تطوراً في وظيفة اللغة وثراء في طبيعتها وتغيراً في مكوناتها الإشارية، أي أنَّ»التطور من العلامة والإشارة إلى المفهوم المجرد والرمز معناه تطور اللغة من الوفاء فحسب بوظيفتي الأعلام والأخبار إلى الوفاء بوظيفتي التصوير والصياغة «[5].
واقترنت نشأة الشعر منذ أقدم العصور برحلة العمل الجماعي، سواء أكان في رحلة للصيد، أم لجني الثمار، أو بتأدية عمل لا يمكن أن يؤديه فرد واحد . ان العمل الجماعي يوحد الأفراد ويقلل من تعبها ويقرب من تحقيق هدفها[6]، وقد قاد هذا إلى« التحام حركة الفرد بحركة زميله فكانت قوة إنجاز عملي، لذلك كانت أغنيات البدائيين نداءات، وكان إيقاعهم » تنظيماً « لحركات الأداء العملي »[7].
و تولد من العمل الجماعي محاولات إيقاعية تنتظم بها الكلمات بطريقة معينة لأنَّ هذه الحركات الإيقاعية »تساعد العمل، وتنسق الجهد، وتربط الفرد بفئة اجتماعية . وكل انقطاع في الإيقاع إنماهو ممجوج، لأنه يحدث خللا في عمليات الحياة والعمل وهكذا نجد الإيقاع متمثلاً في الفنون، بوصفه تكراراً لعنصر ثابت، وبوصفه تناسباً وتناظراً «[8].
إذن كان الإنسان بحكم طبيعته الفردية، وبحكم طبيعته الجماعية، يميل إلى التغني مع أداء أفعاله الجماعية بخاصة، سواء أكان نقل حجر كبير، أم جذع شجرة، أم حفر بئر، أم بناء سور، أم في شروعه في الحروب والغارات، فالفعل الجماعي يقتضي إيقاعا معيناً وأصواتاً وكلاماً ينظم وحدة العمل، ويدفع إلى تساوق الفعل وانتظامه . ومن هنا يمكننا القول » إنَّ عملية العمل الجماعي تتطلب إيقاع عمل ينسقها ويساعد هذا الإيقاع ترتيل جماعي ملفوظ إلى حد ما «[9]وبمثل هذه الإيقاعات التي ترافق العمل » يساند الفرد الروح الجماعيحتى وإنْ كان خارج الجماعة«.
ان الإنسان في مراحل تطور المجتمع الأولى كان جزءاً من كيان جماعي، وليس بقادر على الخروج عن الجماعة، أو التعبير عما يضادها، لأن الخروج عليها وعلى روابطها يعني نفياً للإنسان عن الجماعة، ومن ثم فناء لوجوده وكيانه، ولابد له أخيراً من التكيف مع الجماعة، والتحرك في ضوء أساطيرها وعقائدها وأفكارها فلقد » كان الساحر في المجتمع القبلي البدائي، ممثلا للجماعة وخادما لها بكل ما في الكلمة من معنى وكانت قدرته السحرية تدفعه إلى مجازفة التعرض للمــوت، إذا لـم يستجب مراراً عديدة لتحقيق ما تتوق إليه الجماعة «[10]وقد نشأت الفنون في هذه المرحلة تعبيراً عن حاجات الجماعة، وتلبية لرغباتها وأساطيرها وعقائدها، وكان التعبير الفني يؤدى جماعياً، ولم تعرف الفنون الاستقلال الذي تميز بالعصور اللاحقة، فالمسرحية الإغريقية مثلا نشأت أول أمرها نشأة غنائية جماعية، وتقترن بأبعاد دينية، فهي من ناحية تعبر عن الروح الجماعية التي يؤديها أفرادها جميعا، وتعبر من ناحية أخـرى عن طقـوس دينـية فلقد اقترنت بعيدين دينيين يمجـدان اله الخـمر والكـروم » ديونيزوس« ، وهي طقوس عبادية أسطورية تعنى بحياة ديونيزوس وموته، وقد تمثل موته في جفاف الكرم وذبوله، وتمثلت حياته في عودته إلى النماء من جديد، وكانت الاحتفالات يرافقها ضجيج وفوضى، وتتسم بوحشية وتحلل أخلاق، وكانت تؤدى بوصفها طقوساً جماعية وقد تحولت بمرور الزمن إلى جماعات تـؤدي أفعالا يقوم بقيادتها بعض الأفراد وانَّ » هؤلاء القادة هم الذين تحددت شخصياتهم الفنية فيما بعد، وأصبحوا بمرور الزمن بحكم وظيفتهم في الاحتفالات الجماعية، الممثلين الذين انفصلوا عن هذه الوظيفة التمثيلية الجماعية، ليقوموا هم بتمثيل هذه الأناشيد، بدلا من مجرد إلقائها في مسرحيات أخرى لها أصولها وقواعدها الفنية المعتبرة لدى كتاب المسرح ورواده من الشعب اليوناني «[11].
وجاءت مرحلة حاول فيها الإنسان التعبير عن فرديته، ولكنها حركة في إطار حركة الجماعة، وتتمثـل هـذه المحاولة في شخصية الساحر الذي يزعم أنه يمتلك خصائص لا يمتلكها سواه، وتتجلى أبرز ملامح السحر في استخدام اللغة بكيفية معينة لتجلب القوى الغامضة التي تحققالأفعال التي يروم الساحر تحقيقها . ويؤدي الساحر وظيفة العراف والفنان والشاعر، فهو يعمد إلى خلق النبوءة والكشف عنها، ويستخدم اللغة بكيفية معينة تتجاوز التوصيل المقصود لذاته .
وبقيت آثار الوظيفة السحرية مرافقة للشعر في مراحل لاحقة، ويتجلى ذلك في أثر المدح والهجاء في الإنسان، ولقد كان المدح والهجاء يلعبان دوراً خطيراً في حياة العرب منذ مراحل سحيقة والى يومنا هذا، وهذا يدل على أنَّثمة صلة وثيقة بين الشعر والسحر، سواء أكانت هذه الصلة في مراحل نشأة الشعر، أم في الكيفية التي يتضمنها الشعر من التأثير في الناس لدرجة تشبه أثر السحر . ولذلك فليس غريباً أنْ نجد من يؤكد » أنَّ الشعر هو فن من الفنون التي كان يمارسها السحرة في التأثير في مشاعر الناس وكانوا يتخذونه وسيلة من وسائل التأثير في النفوس، لما يستعملونه فيه من كلام مؤثر ساحر يترك أثراً خطيراً في نفس سامعه«[12].
ويؤكد بروكلمان أنَّالهجاء قبل أنْ يتحول إلى شعر السخرية والاستهزاء » كان في يد الشاعر سحراً يقصد به تعطيل قوى الخصمبتأثير شعري. ومن ثم كان الشاعر إذا تهيأ لإطلاق مثل ذلك اللعن، يلبس زياً خاصاً شبيهاً بزي الكاهن «[13]. ويؤكد هذا ما يذكره الشريف المرتضى في أنَّ الشاعر إذا أراد الهجاء » دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلاً واحدة «[14] ويعلق أحد الباحثين بأن » حلق الرأس كان من سننهم في الحج، وكأن شاعر الهجاء يتخذ نفس الشعائر التي يصنعها في حجه، وأثناء دعائه لربه أو لأربابه، حتى تصيب لعنات هجائـه بكل ما يمكن من ألوان الأذى وضروب النحس المستمر » [15] ، وهذه الطقوس تدل على أنَّ فعل الهجاء لا بد أن ترافقه حركات وأفعال تؤدي إلى تأثير الفعل . إنَّ الهجاء في هذه الحالة يشبه تماماً الرقية التي يصنعها الساحر، ولابد للساحر من أداء طقوس ترافق الرقية، وبذا يتداخل الأداء الصوتي والحركة الجسمية، تماماً كما لو كان الشاعر الجاهلي يدهن أحد شقي رأسه ويرخي إزاره وينتعل نعلاً واحدة، فالساحر من أجل ان تحدث الرقية مفعولها» يقلد سلفاً الاحتضار من المرض الذي ابتلي به الشخص المعني، فيتمرغ على الأرض، ويصيح متشنجا بشدة، وبذلك وحده، وعقب تقليد دقيق لنتائجه تستطيع الرقية أنْ تفعل فعلها «[16].
ولم يكن الرثاء بعيداً عن أجواء السحر، بل لعله يتنفس في أجواء السحر أكثرمن الهجاء، لأنَّ الغاية من المرثية » انْ تطفئ غضب المقتول، وتنهاه أن يرجع إلى الحياة فيلحق الأضرار بالأحياء الباقين«[17]وقد أسهمت المرأة في النواح والبكاء مع طقوس ترافق ذلك، ويقال » إنهن كن يحلقن شعورهن ويلطمن خدودهن بأيديهن والنعال والجلود وكن يصنعن ذلك على القبر وفي مجالس القبيلة والمواسم العظام، ولعل في حلق رءوسهن ما يجمع بينهن وبين الهجائين … وما يشهد بأن هذا الرثاء إنماتطور عن تعويذات كانت تقال للميت وعلى قبره حتى يطمئن في لحده«[18]ومثل هذا ما ينقله ابن طباطبا العلوي من«أمثلة لسنن العرب المستعملة بينها، التي لا تفهم معانيها إلا سماعاً، كإمساك العرب عن بكاء قتلاها حتى تطلب بثأرها، فإذا أدركته بكت حينئذ قتلاها «[19].
إنَّ هذه التقاليد التي رافقت أداء الهجاء أو المرثية إنماتدل على تداخل السحر بالأسطورة بالشعر، ولذلك ليس غريباً أن تجد من يؤكد » أنَّالشعراء إنماأخذوا تقليدهم هذا من السحرة : الشعراء الأوائل، ومن الكهنة، لأن السحرة والكهنة كانوا ينظمون الشعر وينشدونهعلى هيأة خاصة، يلبسون فيه أردية خاصة ويقفون في وضع خاص حين إنشاد الشعر «[20].
ولقد تطور الشعر العربي من أشكال إيقاعية قديمة، لا نمتلك دليلاً يحدد كيفيتها غير أنَّحكماً ظنياً يعتمد قاعدة التطور من البسيط إلى المركب يمكنه أن يرجح الإشارة إلى الأشكال الإيقاعية التي تطور عنها الشعر. ويبدو أنَّالإنسان العربي القديم قد لجأ إلى بعض عبارات موقعة ـ قد تكـون ذات طبيعة سجعيـة أو لا تكـون ـ استجابة للحظات انفعالية، ربما تكون مرتبطة بطقوس دينية أو سحرية، أو بكليهما معا، حين كان السحر والفن والدين تلتقي في الخصائص والوظائف، وقد تكون هذه الأشكال الإيقاعية مرتبطة بحالة هياج انفعالي لحادثة، أو موقف قتالي، أو انفعال بفجيعة ميت، أو أداء طقوس هجائية، أو جنائزية، او نحو ذلك.
ويذهب عدد من الباحثين إلى تأكيد أنَّ السجع هو الشكل التعبيري الذي تطور عنه الشعر، فالسجع فيما يرى ـ بروكلمان ـ قد ترقى » إلى بحر الرجز المتألف من تكرار سببين ووتد يسهل على السمع ويبلغ أثره في النفس، وبعض علماء العروض ينكرون عد الرجز من الشعر، وفي الواقع يبدو أنَّ الرجز في الجاهلية كان يلبي حاجة الارتجال فحسب، ولم يستخدمه بعض الشعراء في منافسة الأوزان العروضية الكاملة الا في زمن الأمويين، ومن الرجز نشأ بناء أبحر العروض على مصراعين وقافية في الثاني، أما الأوزان العروضية فلا ريب أنَّ بناءها تم بتأثير فن غنائي وإنْ كان بدائيا ً«[21].
ويظهر أنَّبروكلمان لا يؤكد اقتران السجع هنا بطقوس دينية أو سحرية، في حين أكد ذلك بلاشير و غرونباوم، إذ يرى بلاشير أنه »كان للعرب منذ زمن قديم جداً نثر مسجوع، موقع، ذو صلات وثيقة بالسحر، وقد تكون هذه الطريقة التعبيرية ـ كما يرى بعضهم ـ نقطـة انطلاق الشعر العروضي والنظمي «[22]ويرى غرونباوم أنَّهناك قوة سحرية في الكلمة أدت إلى شـيوع »العزائم « و »الرقى « و»اللعنات « التي وردت أولاً في كلام مسجع، ثم في سجع موزون وهو شعر الرجز «[23]، إنَّ الشعر من هذا المنظور قد تطور من السجع، وهو » النثر المقفى المجرد من الوزن«[24]، كما يصفه بروكلمان في حين يتصف السجع عند بلاشير » باستعمال وحدات إيقاعية، قصيرة اجمالاً تتراوح بين أربعة وثمانية «[25].
ومن الجدير بالذكر أنَّ » أدونيس « يقسم السجع إلى أنماط متعددة :الأول يكون فيه الجزآن متوازنين متعادلين لا يزيد أحدهما عن الآخر، مع اتفاق الفواصل على حرف بعينه، والثاني : تكون فيه ألفاظ الأجزاء المزدوجة مسجوعة، فيكون الكلام كله سجعاً، والثالث تكون فيه الأجزاء متعادلة، وتكون الفواصل على أحرف متقاربة المخارج، إذا لم تكن من جنس واحد[26]. ولم يكن المستشرقون هم الذين انفردوا بالاعتقاد بأنَّ أوزان الشعر العربي قد تطورت من السجع إلى الرجز، بل ذهب بعض الباحثين العرب إلى متابعة هذه التصورات وتأكيدها مع مزيد من التفصيل، إذ يتابع محمـد عثمان علي آراء الطاهر أحمد مكي في أنَّ القصيدة الجاهلية بدأت بشيوع العرافة واتخاذ العرافين والمحكمين الكلام المسجوع، ثم السجع الموزون وسيلة للتعبير عن تنبؤاتهم وأحكامهم، ومن السجع الموزون إلى الرجز ومن الرجز إلى الشعر، وإذا كان السجع أداة الكهان فإنَّ الرجز قد أصبح غناء الحداة حراس القوافل، ثم تطـور هذا الـرجز فاستعمل في أغراض من الشعر مختلفة «[27].
والحق انَّ هذه التصورات للمستشرقين والعرب إنماهي فروض ظنية، لأننا لا نملك دليلا يؤكد أنَّ العربي قد بدأ بالسجع أولاً، ثم بالسجع الموزون ثانياً، أو أنَّ الرجز قد تطور عن السجع الموزون، ومن ثم تفرعت عنه البحور الشعرية، فقد يكون ما حصل خلاف ذلك، اذ يذهب أحد الباحثين إلى القول بأن بعض القدماء والمحدثين قد زعموا «أنَّ الرجز أقدم أوزان الشعر العربي، وأنه تولد من السجع، مرتبطا بالحداء ووقع أخفاف الإبل في أثناء سيرها وسراها في الصحراء، وقد تولدت منه الأوزان الأخرى غير أنَّ هذا مجرد فرض . وكل ما يمكن أنْ يقال هو أنَّ الرجز كان أكثر أوزان الشعر شيوعاً في الجاهلية، إذ كانوا يرتجلونه في كل حركة من حركاتهم وكل عمل من أعمالهم في السلم والحرب، ولكن شيوعه لا يعني قدمه ولا سبقه للأوزان الأخرى «[28].
إنَّما أميل له وتطمئن إليه نفسي أنَّ هناك أشكالاً تعبيرية ذات طابع إيقاعي هي التي تطورت بمرور الزمن، فتولدت عنها الأوزان العربية . ولعل هذه الأشكال التعبيرية كانت تختلط بأشكال أولية إيقاعية للأوزان العربية، ولعل أوزاناً شعرية عديدة قد ضاعت لم تصل إلينا، لكننالا نستطيع الجزم، وحتى إمكان الفرض المؤكد بأن الشعر قد تطور وفق سلسلة معينة على أساس تطور منطقي : من السجع، فالسجع الموزون فالرجز، فالأوزان الشعرية الأخرى . ولا نستطيع التأكيد أنَّ الشعر الجاهلي القديم كان محافظاً على الـوزن والقافية » إذ من الجائز أن يكون على شاكلة الشعر القديم الذي نظمه الشعراء الساميون، من عدم تقيد بالقافية وبوزن الأبيات، كما نجد ذلك في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى، وإنماكانوا يراعون فيه النغم بحيث يتغنى به، أو بتأثير العـواطف، بمـراعاة نسق الكلام المبني على البلاغة، ولهذا عد السجع نوعاً من أنواع الشعر، لأنَّ فيالسجع من الوصف والعاطفة والحس ومعالجة الموضوع ما يجعله شعراً، وفي بعضه نغم يجعله صالحاً لأن يتغنى «[29].ولعل الاستشهاد بخطبة قس بن ساعدة يدل على اختلاط الأشكال الإيقاعية المختلفة، سواء أكانت سجعا، أم سجعا موزونا، أم وزنا شعريا، في خطبة واحدة، يقول :
أيها الناس
اسمعوا وعوا
انظروا واذكروا
من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت
ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج
الا ان أبلغ العظات، السير في الفلوات، والنظر إلى محل الأموات
إن في السماء لخبرا، وأن في الأرض لعبرا
مالي أرى الناس يذهبون، فلا يرجعون
أرضوا هناك بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا
يا معشر إياد !
أين الآباء والأجداد، وأين المريض والعواد، وأين الفراعنة الشداد ؟
اين من طغى وبغى، وجمع فأوعى، وقال أنا ربكم الأعلى
الم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأطول منكم آجالا
في الذاهبــين في القـــرون لنا بصـائـــر
لما رأيت مـواردا للمـوت ليس لها مصــــادر
ورأيت قومي نحوها تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ولا من الباقين غــابــــر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صــــائـر
أقـول لعل هـذا يدفع إلى ترجيح التصور الذي أميل إليه، وقد فطن إلى هذا التصور مصطفى عبد الشافي الشورى حيث يقول إنَّ هذه الخطبة تبدأ » بالسجع المتوازن، ثم تتسع الفواصل في بعضها وتتقارب شيئا فشيئا في ترتيب وقع النغمات حتى تصبح الجمل مقاطع متعادلة الطول، متوافقة في موقع النبرات، فتتحول إلى أشطر عروضية تامة وتتحول مواقع السجع إلى قواف سوية، فينتهي الإنشاد بالشعر الموزون كما نفهمه الآن «[30].
إذن يمكننا القول أخيرا إنَّ الشعر قد بدأ » بداية متحررة فلم يكن الإنسان في بادئ أمره بالشعر يتقيد بالوزن والقافية، وإنماكان يميز بينه وبين النثر بالنغم الذي يجعله فيه وبالنبـرات التي يخـرجها مخارج الغناء، ولهـذا تجد المقطوعات الشعرية القديمة التي وصلت إلينا مدونة في كتابات مختلف الشعوب لا تشبه الشعر المعروف، إذ فيه تحرر، وفيه اعتماد على الترنم والإنشاد وعلى فن الإلقاء، أما الاعتبارات الفنية المعروفة، فهي من عمل الشعراء المتأخرين الذين أحلوا الوزن محل الإلقاء، ووضعوا قواعد معينة في نظم الشعر . فلم تكن الأبيات الشعرية في الشعر القديم متساوية، ولم تكن هناك قواف بالضرورة، حتى انك لا تستطيع تمييز القطعة الشعرية عن غيرها إلا بالإنشاد «[31].
[1] ـ احسان سركيس، الآداب القديمة وعلاقتها بتطور المجتمعات، ص 17 .
[2] ـ ارنست فيشر، ضرورة الفن، ص 28 .
[3] ـ ديفيد ديتيشس، مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، ص17.
[4] ـ عبد المنعم تليمة، مقدمة في نظرية الأدب، ص 17 .
[5] ـ نفسه، ص 23 .
[6] ـ نفسه، ص 48 .
[7] ـ نفسه، ص 48 .
[8] ـ ارنست فيشر، ضرورة الفن، ص 42 ـ 43 .
[9] ـ نفسه، ص 35 .
[10] ـ نفسه، ص 50 .
[11] ـ ابراهيم عبد الرحمن، الأدب المقارن، ص 177 .
[12] ـ جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام،9/69، وينظر: كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي،1/146
[13] ـ كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، 1/46 .
[14] ـ الشريف المرتضى، امالي المرتضى، 1/191 .
[15] ـ شوقي ضيف، العصر الجاهلي، ص 197 .
[16] ـ ارنست فيشر، ضرورة الفن، ص 40 .
[17] ـ كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي ،1/48 .
[18] ـ شوقي ضيف، العصر الجاهلي، ص 207 .
[19] ـ ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر ،ص 73 .
[20] ـ جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 9/86 .
[21] ـ كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، 1/51 .
[22] ـ ريجيس بلاشير، تاريخ الأدب العربي، 1/202 .
[23] ـ غرونباوم، دراسات في الأدب العربي، ص 136 .
[24] ـ كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، 1/51 .
[25] ـ ريجيس بلاشير، تاريخ الأدب العربي، 1/203 .
[26] ـ أدونيس، الشعرية العربية، ص 10 . ويرى جواد علي أنَّ » السجع وإنْ ظهر في عربيتنا كلام موزون مقفى خال من الوزن، إلا انه في الواقع كلام موزون روعي فيه أنْ يكون الشطر الثاني من الجملة موازياً، أي مساوياً للشطر الأول منها بحيث يكون بوزنه وبقافيته « المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 9/137 .
[27] ـ محمد عثمان علي، في أدب ما قبل الإسلام، ص 101 .
[28] ـ شوقي ضيف، العصر الجاهلي، ص 185 ـ 186 .
[29] ـ جواد علي ،المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 9/124 .
[30] ـ مصطفى عبد الباقي الشورى، شعر الرثاء في العصر الجاهلي، ص76
[31] ـ جواد علي، المفصل في تارخ العرب قبل الإسلام، 1/125ـ12